يشهد عالم الأعمال تحولًا جذريًا بفعل ثورة الإعلام الرقمي، والسوق الليبي ليس ببعيد عن تلك التحولات. فمع انتشار الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي في ليبيا بنسبة غير مسبوقة (أكثر من6 ملايين مستخدم إنترنت أو ما يزيد عن 88% من السكان، وأكثر من 5 ملايين مستخدم لوسائل التواصل الاجتماعي أو أعلى من 85% من السكان في أول عام 2024)، باتت القنوات الرقمية أداة أساسية للشركات لتعزيز حضورها والوصول لجمهور أوسع. هذا ينطبق خصوصًا على مؤسسات القطاع الخاص والشركات الصغيرة والمتوسطة وشركات الخدمات والتكنولوجيا، التي تجد في الإعلام الرقمي ساحة مفتوحة للمنافسة وبناء مكانة في السوق دون الحاجة لميزانيات ضخمة كالتي يتطلبها الإعلام التقليدي.
ولا يقتصر الإعلام الرقمي على منصات التواصل الاجتماعي فحسب، بل يشمل كل وسيلة إلكترونية تتيح بناء العلامة التجارية والتفاعل مع العملاء، من المواقع الإلكترونية والمدونات إلى البريد الإلكتروني والإعلانات عبر الإنترنت.
وسواءٌ كنت صاحب مطعم ناشئ في طرابلس أو شركة تقنية تطمح للتوسع في غريان، فإن الاستراتيجية الإعلامية الرقمية الصحيحة يمكن أن تُحدث فرقًا كبيرًا في توسيع قاعدة عملائك وتحسين مبيعاتك وبناء الثقة في علامتك ضمن السوق المحلي. وفي هذا المقال نستعرض بشكل منظم ومبني على أحدث الإحصائيات (حتى يونيو 2025) كيف يمكن للإعلام الرقمي أن يحقق هذه الأهداف للشركات الليبية الناشئة والصغيرة والمتوسطة.
أولا: تعزيز العلامة التجارية عبر الإعلام الرقمي
العلامة التجارية القوية أحد أهم أصول الشركة في عصرنا الحالي. ويمنح الإعلام الرقمي الشركات منصة غير مسبوقة لتعزيز هويتها ورسالتها أمام الجمهور المستهدف، فعلى سبيل المثال، تُظهر البيانات أن غالبية المستهلكين في الفئة العمرية 16-54 عامًا يتعرفون على المنتجات والخدمات الجديدة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. أي أن منصات مثل فيسبوك وإنستغرام أصبحت نافذة يطّلِع منها الناس على العلامات التجارية الجديدة بشكل يفوق القنوات التقليدية.
وبالنسبة للشركات، فإن 83% منها ترى أن زيادة الظهور للعلامة التجارية هي المنفعة رقم واحد لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، ما يفسّر لماذا 44% من الشركات الصغيرة تضع نُصب عينها هدف تعزيز الوعي بعلامتها عبر هذه المنصات. فالحضور الرقمي النشط – من نشر المحتوى المفيد إلى التفاعل مع تعليقات المتابعين – يبني صورة ذهنية إيجابية ويُبقي اسم العلامة حاضرًا في أذهان العملاء المحتملين.
علاوة على ذلك، يساهم المحتوى الرقمي في بناء هوية العلامة وثقتها لدى الجمهور. فعندما تشارك الشركة قصص نجاح العملاء أو لقطات من وراء الكواليس عبر منصاتها الرقمية، يشعر المتابعون بأنهم أقرب إلى تلك العلامة ويتعرّفون على قيمها وأسلوبها.
وتشير إحصائية عالمية حديثة إلى أن 77% من المستهلكين يفضلون التسوّق من علامات تجارية يتابعونها على وسائل التواصل الاجتماعي، ما يعني أن نجاح العلامة تجاريًا بات مرتبطًا بمدى حضورها في حياة الناس الرقمية.
“وباختصار، الإعلام الرقمي هو جسر للتواصل العاطفي والمعرفي مع الجمهور؛ فمن خلاله تستطيع حتى الشركات الناشئة بناء علامة تجارية قوية تنافس أسماءً أكبر حجمًا بفضل الإبداع والتفاعل المستمر.”
توسيع قاعدة العملاء من خلال القنوات الرقمية
من أهم ما يتيحه الإعلام الرقمي للشركات هو توسيع نطاق جمهورها بشكل لم يكن ممكنًا في السابق. فبدلًا من الاعتماد على جمهور محلي محدود أو العملاء الحاليين فقط، أصبح بمقدور الشركات الليبية – حتى الصغيرة منها – الوصول إلى آلاف، بل ملايين المستخدمين عبر الإنترنت. يكفي أن نعرف أن عدد مستخدمي التواصل الاجتماعي عالميًا تجاوز 5 مليارات مستخدم نشط في عام 2024، أما في ليبيا فحوالي 85% من السكان يستخدمون هذه المنصات بانتظام. هذا يعني أن غالبية شريحة العملاء المستهدفة – على اختلاف أعمارهم واهتماماتهم – متواجدة أصلاً على فيسبوك أو إنستغرام أو غيرها. ومن خلال المحتوى المناسب والاستهداف الدقيق، تستطيع الشركات جذب انتباه عملاء جدد لم يكونوا على دراية بعلامتها من قبل.
الأرقام تؤكد فاعلية هذه الاستراتيجية؛ إذ أن 77% من الشركات الصغيرة في الولايات المتحدة تعتمد على وسائل التواصل الاجتماعي في مجالات التسويق والمبيعات وخدمة العملاء. هذا الاتجاه العالمي يرسل رسالة واضحة: التواجد حيث يوجد العميل (أي على الإنترنت) بات شرطًا أساسيًا للنمو. بل إن معظم الشركات زادت إنفاقها على التسويق الرقمي في السنوات الأخيرة، حيث ارتفعت ميزانيات الإعلانات على الشبكات الاجتماعية ومحركات البحث مع تراجع الإنفاق على القنوات التقليدية. وتشير التقديرات إلى أن 60% من إجمالي الإنفاق التسويقي عالميًا أصبح موجهًا للوسائل الرقمية بنهاية عام 2024 – في دلالة على التحول الكبير نحو الإعلام الرقمي للوصول إلى العملاء.
من مزايا القنوات الرقمية أنها تتيح استهدافًا دقيقًا للعملاء المحتملين وفق اهتماماتهم أو مواقعهم الجغرافية أو فئاتهم العمرية، وهذا مفيد بشكل خاص للشركات الخدمية والتقنية التي تستهدف شرائح محددة. على سبيل المثال، يمكن لشركة تقنية ناشئة تقديم إعلان عبر فيسبوك يستهدف فقط المهتمين بالتكنولوجيا في مدن معينة بليبيا، أو لشركة خدمات منزلية أن توجّه محتواها نحو الفئة العمرية المناسبة التي تتفاعل معها أكثر. هذا المستوى من التخصيص غير ممكن في وسائل الإعلام التقليدية واسعة النطاق. والأهم أن النتائج قابلة للقياس الفوري؛ حيث تستطيع معرفة عدد من شاهد إعلانك وتفاعل معه أو نقر على رابط موقعك، مما يساعد في ترشيد القرارات التسويقية مستقبلًا بناءً على بيانات فعلية.
تحسين المبيعات عبر التسويق الرقمي
الهدف النهائي لمعظم الأنشطة التسويقية هو زيادة المبيعات، والإعلام الرقمي أثبت فعاليته كقناة تسويق تؤدي إلى رفع العائدات عند استخدامه بذكاء. إذ لم يعد دور المنصات الرقمية تقتصر على التعريف بالشركة، بل تطورت لتصبح قنوات للبيع المباشر أيضًا. فعلى سبيل المثال، يتيح فيسبوك وإنستغرام خاصية المتاجر الإلكترونية للشراء المباشر من خلالهما، كما أن كثيرًا من العملاء يتخذون قرار الشراء بعد الاطلاع على توصيات أو إعلانات على هذه المنصات. وفي إحدى الدراسات، قرابة 90% من جيل الألفية أفادوا بأنهم اشتروا منتجًا شاهدوه أولًا على وسائل التواصل الاجتماعي – رقم لافت يدل على مدى التأثير الذي باتت تملكه المنصات الرقمية في توجيه قرار المستهلك.
من منظور الشركات، فإن الاستثمار في التسويق الرقمي يُؤتي ثماره بوضوح. وتشير إحصاءات حديثة إلى أن 41% من الشركات الصغيرة تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي بهدف تحقيق الإيرادات المباشرة. كما أن العائد على الاستثمار (ROI) في الإعلانات الرقمية مرتفع؛ فعلى سبيل المثال، كل 1 دولار يُنفق على إعلانات الدفع لكل نقرة (PPC) يحقق متوسط 2 دولار كعوائد، أي معدل عائد 200. وهذا يتفوق على كثير من أساليب التسويق التقليدية من حيث الكفاءة والتكلفة. وليس غريبًا إذن أن نرى 94% من المشاريع الصغيرة حول العالم خططت لزيادة إنفاقها على التسويق في 2024 سعيًا لتعزيز المبيعات، ومعظم هذا الإنفاق الإضافي يذهب إلى القنوات الرقمية.
علاوة على ذلك، يمتاز التسويق عبر الإعلام الرقمي بقدرته على توليد العملاء المحتملين (Leads) بشكل مستمر. فوجود إستراتيجية محتوى رقمية جيدة – تتضمن مقالات تثقيفية ومنشورات ترويجية ذكية وعروض خاصة – يمكن أن يستقطب المهتمين ويحوّلهم إلى زبائن عبر خطوات بسيطة مثل التسجيل في نموذج إلكتروني أو التفاعل عبر رسائل الصفحة. وقد علّقت إحدى خبيرات التسويق الرقمي بأن مجرد “استخدام الوسوم (الهاشتاغ) المناسبة مع محتوى جذاب يمكن أن يضع عملك أمام عدد هائل من العملاء المحتملين”. وهذا مهم جدًا في سوق كليبيا، حيث التفاعل الاجتماعي قوي والكلمة تنتشر بسرعة بين المجتمعات الرقمية. كل ذلك ينعكس في نهاية المطاف على زيادة المبيعات سواء بشكل مباشر عبر الطلبات الإلكترونية، أو بشكل غير مباشر عبر زيادة زيارات العملاء لمتجرك الفعلي نتيجة تعرفهم على عروضك عبر الإنترنت.
بناء الثقة في السوق المحلي
لا يمكن المبالغة في أهمية الثقة عند الحديث عن العلاقة بين العملاء والعلامات التجارية، وخاصة في السوق المحلي الليبي حيث تلعب العلاقات الشخصية وسمعة الشركة دورًا كبيرًا في قرار التعامل معها. هنا يبرز دور الإعلام الرقمي كوسيلة لبناء وتعزيز هذه الثقة بشكل مستمر وشفّاف. إن مجرد تواجد الشركة على منصات التواصل والتفاعل الإيجابي مع الجمهور يرسل إشارة بأن هذه العلامة حاضرة ومتاحة وتتواصل بوضوح. وقد أشار خبراء في التسويق إلى أن المستهلكين اليوم يتوقعون وجود الشركات على وسائل التواصل الاجتماعي، وأن الحسابات الرسمية للشركة أصبحت بمثابة “اختبار مصداقية” أولي لأي عميل محتمل. فعندما يبحث المستخدم عن شركة ما ولا يجد لها أي حضور رقمي، قد يهز ذلك ثقته ويدفعه للارتياب في جدّية أو مصداقية تلك الشركة.
من ناحية أخرى، يتيح الإعلام الرقمي للشركات بناء جسور من الثقة عبر التفاعل المباشر والسريع. والرد على استفسارات العملاء وتعليقاتهم بشكل لبق وفي الوقت المناسب، وتقديم محتوى صادق يبرز القيم الحقيقية للشركة، كلها أمور تعزّز ولاء العملاء الحاليين وتكسب ثقة الجدد. ولنا أن ننظر في إحصائية حديثة تبيّن أن 71% من المستهلكين يرجحون توصية معارفهم بعلامة تجارية إذا كانت تجربتهم مع تواجدها على التواصل الاجتماعي إيجابية. أي أن التفاعل الجيد وخدمة العملاء عبر الإنترنت لا تكسب رضا الفرد فحسب، بل يمكن أن تتحول إلى تسويق شفهي إيجابي يوسّع قاعدة الثقة حول العلامة. وليس الشباب وحدهم من يتأثر بذلك؛ فقد وُجد أن 62% من جيل الألفية سيكونون أكثر ولاءً للعلامات التي تتفاعل معهم على الشبكات الاجتماعية – ما يعني جيلاً كاملاً قادمًا من صناع القرار والمستهلكين يربط الولاء بمدى الانخراط الرقمي للعلامة.
في السوق الليبي، بناء الثقة رقميًا قد يعني أيضًا مراعاة الخصوصية الثقافية والتحدّث بلغة الجمهور المحلية. المحتوى العربي الفصيح والبسيط، والتواصل باللهجة الليبية عند الاقتضاء، ومراعاة العادات والتقاليد الاجتماعية في الحملات الرقمية، كلها تعطي انطباعًا بأن الشركة تفهم مجتمعها وتنتمي إليه. وحين يشعر العميل بذلك، يزيد اطمئنانه للتعامل معها. هذا بالإضافة إلى إتاحة المجال للعملاء لمشاركة تقييماتهم وآرائهم بحرية على صفحات الشركة، وهو سلاح ذو حدين لكنه قوي لبناء الثقة؛ فتفاعل الشركة بشفافية مع الملاحظات الإيجابية وحتى السلبية يعكس مصداقيتها وحرصها على التحسين المستمر.
نحو استراتيجية إعلامية رقمية ناجحة
ختامًا، بات من الواضح أن الإعلام الرقمي يلعب دورًا محوريًا في تشكيل نجاح الأعمال اليوم. فهو وسيلة فعّالة لترسيخ العلامة التجارية، وفتح أسواق جديدة أمام الشركات، وزيادة المبيعات بطرق قابلة للقياس والتحسين، فضلًا عن كونه الأداة الأبرز حاليًا في بناء الثقة مع العملاء. هذا التأثير يمتد عبر مختلف القطاعات، لكنه حيوي بشكل خاص للشركات الصغيرة والمتوسطة وشركات الخدمات والتكنولوجيا والبيع بالتجزئة في ليبيا التي تسعى لإثبات نفسها في سوق تنافسي ومتسارع التغيير.
لكن تحقيق هذه المكاسب يتطلب استراتيجية مدروسة وجهدًا مستمرًا. فالإدارة الناجحة للحضور الرقمي تعني التخطيط الجيد للمحتوى، ومتابعة تفاعلات الجمهور أولًا بأول، وتحليل البيانات لضبط المسار. ومن الذكاء ألا تتردد الشركات في طلب المشورة أو الدعم المتخصص إذا لزم الأمر؛ ففي كثير من الأحيان قد تكون الاستعانة بخبرات محترفة في الإدارة الإعلامية الرقمية – مثل شركة “أجواء ميديا” – هي الخطوة الفارقة لتسريع النجاح وضمان أفضل العوائد. هكذا يمكن للقطاع الخاص الليبي استثمار قوة الإعلام الرقمي لصنع التأثير المطلوب في عالم الأعمال، وبناء علاقات طويلة الأمد مع العملاء قوامها الثقة والمنفعة المتبادلة.